سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في موضع نصب بالاستثناء المتصل، المعنى: أن الله برئ من المشركين إلا من المعاهدين في مدة عهد هم.
وقيل: الاستثناء منقطع، أي أن الله برئ منهم ولكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد فأتموا إليهم عهد هم. وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ} يدل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت على الوفاء، فأذن الله سبحانه لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نقض عهد من خاس، وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته. ومعنى {لَمْ يَنْقُصُوكُمْ} أي من شروط العهد شيئا. {وَلَمْ يُظاهِرُوا} لم يعاونوا. وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار {ثم لم ينقضوكم} بالضاد معجمة على حذف مضاف، التقدير ثم لم ينقضوا عهدهم. يقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة. ثم قال: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ} أي وإن كانت أكثر من أربعة أشهر.


{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي خرج. وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه.
وقال الشاعر:
إذا ما سلخت الشهر أهللت قبله *** كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل. وسلخت المرأة درعها نزعته.
وفي التنزيل: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} [يس: 37]. ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسر ها أخضر. والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد. قال الأصم: أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس، لان النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا.
وقيل: شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حرم لان الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير.
الثانية: قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة البقرة من امرأة وراهب وصبي وغيرهم.
وقال الله تعالى في أهل الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}. إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. واعلم أن مطلق قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الاخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رءوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية. وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عام في كل موضع. وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة البقرة. ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الاعراض والصبر على أذى الاعداء.
وقال الضحاك والسدي وعطاء: هي منسوخة بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً} [محمد: 4]. وأنه لا يقتل أسير صبرا، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى.
وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً} وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل.
وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. وهو الصحيح، لان المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم من أول حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق. وقوله: {وَخُذُوهُمْ} يدل عليه. والأخذ هو الأسر. والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الامام. ومعنى {احْصُرُوهُمْ} يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان.
الرابعة: قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلانا أرصده، أي رقبته. أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون. قال عامر بن الطفيل:
ولقد علمت وما إخالك ناسيا *** أن المنية للفتى بالمرصد
وقال عدي:
أعاذل إن الجاهل من لذة الفتى *** وإن المنايا للنفوس بمرصد
وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة. ونصب {كُلَّ} على الظرف، وهو اختيار الزجاج، ويقال: ذهبت طريقا وذهبت كل طريق. أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصد وعلى كل مرصد، فيجعل المرصد اسما للطريق. وخطأ أبو علي الزجاج في جعله الطريق ظرفا وقال: الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعا، كما حكى سيبويه: دخلت الشام ودخلت البيت، وكما قيل:
كما عسل الطريق الثعلب ***
الخامسة: قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا} أي من الشرك. {وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال: {فَإِنْ تابُوا}. والأصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة. وهذا بين في هذا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما. نظيره قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماء هم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال.
وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه.
وقال ابن العربي: فانتظم القرآن والسنة واطردا. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ومن ترك السنن متهاونا فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير رادا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه. واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال، فروى يونس ابن عبد الا على قال: سمعت ابن وهب يقول قال مالك: من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي. وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع.
وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب ولا يقتل، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود ابن علي. ومن حجتهم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماء هم وأموالهم إلا بحقها». وقالوا: حقها الثلاث التي قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس». وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر، وأبى من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر، ودمه وماله حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم ماله كحكم مال المرتد، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زماننا هذا.
وقال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقت الضرورة، وهو الصحيح من ذلك. وذلك أن يبقى من وقت العصر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس.
وقال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر.
السادسة: هذه الآية دالة على أن من قال: قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لان الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة.
وقال في آية الربا {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ} [البقرة: 279]. وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160] وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة.


{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي من الذين أمرتك بقتالهم. {اسْتَجارَكَ} أي سأل جوارك، أي أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه. فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه. وهذا ما لا خلاف فيه. والله أعلم. قال مالك: إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال: جئت أطلب الأمان. قال مالك: هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه.
وقال ابن القاسم: وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول: ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. وظاهر الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته.
الثانية: ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز، لأنه مقدم للنظر والمصلحة، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضي أمانه عند كافة العلماء. إلا أن ابن حبيب قال: ينظر الامام فيه. وأما العبد فله الأمان في مشهور المذهب، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق والأوزاعي والثوري وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو القول الثاني لعلمائنا. والأول أصح، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدنا هم». قالوا: فلما قال: «أدناهم» جاز أمان العبد، وكانت المرأة الحرة أحرى بذلك، ولا اعتبار بعلة: «لا يسهم له».
وقال عبد الملك بن الماجشون: لا يجوز أمان المرأة إلا أن يجيزه الامام، فشذ بقوله عن الجمهور. وأما الصبي فإذا أطاق القتال جاز أمانه، لأنه من جملة المقاتلة، ودخل في الفئة الحامية. وقد ذهب الضحاك والسدي إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}.
وقال الحسن: هي محكمة سنة إلى يوم القيامة، وقاله مجاهد.
وقيل: هذه الآية إنما كان حكمها باقيا مدة الاربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا، وليس بشيء.
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الاربعة الأشهر فيسمع كلام الله أو يأتيه بحاجة قتل!
فقال علي بن أبي طالب: لا، لان الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}. وهذا هو صحيح. والآية محكمة.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ} {أَحَدٌ} مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده. وهذا حسن في {إن} وقبيح في أخواتها. ومذهب سيبويه في الفرق بين {إن} وأخواتها، أنها لما كانت أم حروف الشرط خصت بهذا، ولأنها لا تكون في غيره.
وقال محمد بن يزيد: أما قوله- لأنها لا تكون في غيره- فغلط، لأنها تكون بمعنى ما ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة، وليس كذا غير ها. وأنشد سيبويه:
لا تجزعي إن منفسا أهلكته *** وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
الرابعة: قال العلماء: في قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} دليل على أن كلام الله عز وجل مسموع عند قراءة القارئ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الأسفرايني وغير هم، لقوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}. فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدل عليه إجماع المسلمين على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا: سمعنا كلام الله. وفرقوا بين أن يقرأ كلام الله تعالى وبين أن يقرأ شعر امرئ القيس. وقد مضى في سورة البقرة معنى كلام الله تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، والحمد لله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8